الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن ولاه .. وبعد:
فإن في ذكرى الإسراء والمعراج دروسا وعبراً لأولي الألباب الذين يربطون الماضي بالحاضر والدنيا بالآخرة، أو الأرض بالسماء، والمخلوق بالخالق، وأهم هذه الدروس ما يلي:
الدرس الأول: أن الإسراء والمعراج جاء مكافأة للصبر في الدعوة إلى الله عز وجل:
لقد عانى النبي صلى الله عليه وسلم معاناة شديدة ليهدي قومه إلى صلاحهم في الدنيا والآخرة، وعارضوه، وقاوموه رغم أنه بدأ سراً ثم جهر بدعوته، لكنه بقي لا يستطيع أن يصلي صلاة سلمية حول الكعبة على حين كان حولها 360 صنما يأتي أي مشرك يطوف حول البيت ويركع ويسجد لصنمه لا يتعرض له أحد.
وكان الرجال والنساء يطوفون بالبيت عرايا، فإذا قرأ أبو بكر القرآن عند الكعبة ضربوه حتى كان عتبة بن ربيعة يضربه بالحذاء على وجهه، وضربت سمية بنت خياط وزوجها ياسر حتى قتلا معاً.
وضرب ابن مسعود وأبو ذر وخباب وفاطمة بنت الخطاب وزنيرة حتى سالت دماؤهم وأغشي عليهم، وفرضوا عليهم الحصار الاقتصادي والاجتماعي فمنعوا بيع الطعام والشراب والزواج والزيارات، فأكلوا أوراق الشجر وكانوا في المقابل يعرضون على النبي – صلى الله عليه وسلم – عروضا منها:
(1) رشوة مالية كبيرة حتى يكون أغنى أهل الجزيرة.
(2) سلطة وملك حتى يكون أول شخص مطاع في قومه.
(3) العلاج الطبي إن كان به مرض، أو حالة نفسية مستعصية.
(4) أن يعبد آلهتهم يوما ويعبدون إلهه يوما في مصالحة على حساب العقيدة.
(5) أن يجعل للعبيد مجالس بعيدة عن المجالس الخاصة بالأغنياء في مصالحة على حساب الأخلاق، وفيها تفرقة عنصرية.
كل هذا في سبيل العدول عما يدعو إليه كلية، أو ترك جزء من الإسلام لا تقبله أهواء القوم خاصة أصحاب السلطة والثروة.
فأبى النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا التمسك بالحق والإصرار على مواصلة الطريق وتعرضوا له بالسخرية والسب والضرب رغم وجاهته وشرفه في قومه، فتركهم إلى أرض أخرى لعلها أن تكون أكثر خصبا وقبولا للدعوة الإسلامية فذهب إلى الطائف فكان قومها أشد بأسا في مواجهة النبي – صلي الله عليه وسلم – فلم يعاملوه لا كإنسان في الضيافة عند العرب.
ولا كرسول له الحق أن يبلغ كلمة الله ولهم الحق في قبولها أم لا؟ رفضوا السماع، ورفضوا عرض الفكرة بأسلوب سلمى محض، وسلطوا عليه الصغار والكبار من اللئام الذين أخرجوه طريدا، ولا يملك شيئا إلا إيمانه بربه وعزمه على مواصلة دعوته لا يتنازل عن جزئية منها.
ولم يستطع أن يدخل مكة بلده الأصلي وموطن أهله وعشيرته ومقام زوجته وأولاده فاضطر إلى الدخول في جوار المطعم بن عدى، ثم رفع رأسه إلى السماء ودعا ربه بخير دعاء فقال مبتهلا متبتلا خاشعا متذللا: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري؟
إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل عليّ غضبك أو يحل بيّ سخطك، لك العتبى حتى ترضي، ولا حول ولا قوة إلا بك".
فكافأه الله تعالى بما يلي:
1. استجابة عبد يسمى عداس إلى الإسلام بعد رفض الكثير له، وهداية واحد خير من الدنيا وما عليها.
2. ساق الله إليه نفرًا من الجن يستمعون القرآن وأحسنوا الاستماع والإنصات ثم فهموا واجبهم فولوا إلى قومهم منذرين.
3. استجابة ستة من أهل يثرب هم طلائع الدعوة في المدينة المنورة والتمكين للإسلام في الأرض، منهم أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، هذا بعد أن رفضت كل القبائل الأخرى منهم بنو كلب وبنو حنيفة، وبنو عامر بن صعصعة وفزارة وغسان دمرة وسليم وعيس وبنو نضر وكندة وعذرة والحضارمة.
4. عدد من أشراف قبائلهم وقومهم منهم سويد بن الصامت الشاعر وإياس ابن معاذ وأبو ذر الغفاري والطفيل بن عمرو الروسي سيد قبيلة دوس.
5. الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج إلى الملأ الأعلى فدنا فتدلى فكان قاب قوسين أوأدنى.
الدرس الثاني: أن الإسراء والمعراج كان مكافأة على سماحة النبي – صلى الله عليه وسلم – وعفوه عمن ظلموه وآذوه هو وأصحابه.
روى البخاري بسنده عن عمرو بن الزبير أن عائشة حدثته أنها قالت للنبي – صلى الله عليه وسلم - : هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد قال: لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب – قرن المنازل - فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني.
فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ، ثم قال يا محمد، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (أي الجبلين) لفعلت فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا.
هكذا كان الحبيب – صلى الله عليه وسلم - بكلمة واحدة إلى ملك الجبال يستطيع أن يدمر كل شيئ في مكة، ولا يبقى فيها واحد من المشركين، دون أن يكلفه شيئا إلا كلمة واحدة، لكنه أبى؛ لأنه رحمة للعالمين، لأنه ذا قلب ينبض بالحب لكل الناس أن يهتدوا، أو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله من الأطفال.
وهكذا الدعاة يحبون للناس الخير، لا يدفعون السيئة بالسيئة بل يدفعونها بالحسنة وبالتي هي أحسن، يقابلون الشر بالخير، والقطيعة بالوصل، والقتل والاضطهاد بالحب والإرشاد، ولذا كافأه الله بأعظم رحلة في الوجود إلى المسجد الأقصى الشريف وإلى السماوات العلا، وقربه إليه ربه وهدى الله به خلفا كثيرا وحقق أمله فكان من أولاد المشركين خيرة الدعاة والمصلحين منهم :
(1) خالد بن الوليد بن المغيرة الذي نزلت فيه آيات سورة المدثر.
(2) عكرمة بن أبي جهل (عمرو بن هشام كبير المشركين).
(3) أم حبيبة بنت أبي سفيان زوجة النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان أبوها آنئذ كافراً.
(4) عبد الله بن عباس وقد أسلمت مع أمه أم الفضل قبل العباس بن عبد المطلب حين كان كافراً.
وهكذا يكون الصبر مع الرحمة بالمدعوين سببا في هدايتهم أو هداية أولادهم، ويفوز الدعاة بالقربى إلى الله، ورفع الدرجات والفوز بالجنات إن شاء الله تعالى.
الدرس الثالث: أمة الإسلام هي صاحبة الميراث لرسالة الرسل والأقصى الشريف:
إن محطة الإسراء النهائية كانت إلى بيت المقدس، وأول المعراج من بيت المقدس وصلى النبي – صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء جميعا إماما كي يشير إلى هذا التوافق بين الأديان السماوية، وتبعية الرسالات السماوية لرسالة واحدة هي رسالة الإسلام، وبخاصة ما جاء به سيدنا عيسى وموسى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام.
وصار المسجد الأقصى بهذا أولى القبلتين، وميراث المسلمين، وظل سيدنا عمر -رضي الله عنه- حافظا لدرس الإسراء والمعراج، وللعهد بالصلاة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً.
كما جاء في حديث البخاري بسنده عن البراء بن عازب حتى أرسل خالدا بن الوليد وأبا عبيدة بن الجراح وفتحت فلسطين والشام وذهب بنفسه لاستلام مفاتيح القدس، ولم يذهب إلى بلد خارج الجزيرة غيرها، وأعطى من صور السماحة مع الأديان الأخرى ما بقي موضع ذكر من كل منصف.
وعاش غير المسلمين في ظل حكم الإسلام يمارسون شعائرهم، وتحترم دور عبادتهم، ويشاركون المسلمين في إدارة البلاد، دون أية حساسية حتى جاء الصليببون يحملون حقدا وغلا، وتحركهم أهواء سياسية وشائعات كاذبة أن المسلمين هدموا قبر المسيح وهي أكذوبة روجها البابا أوربان الثاني والساسة والقساوسة لتحريك الجموع العمياء عن الحقيقة، وقتلوا وسفكوا وهتكوا وخاضوا في الدماء، وأمعنوا في الخراب بحقد لا مثيل له.
لكن صلاح الدين لما واجههم لظلمهم، وقاموهم لفسادهم، وقاتلهم لبغيهم كان يطبق عليهم سماحة الإسلام في التعامل مع الأسرى، وندع الأستاذة تغريد هونكه المؤرخة الألمانية تروى في كتابها: "الله ليس كذلك" (ص: 25) على لسان أحد الألمان الذين شاركوا في الحروب الصليبية وهو "أوليفروس" وكتب عن معاملة صلاح الدين لهم فقال:
"منذ تقادم العهود، لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك، لم نعرفك مستبدا طاغية، ولا سيدا داهية، وإنما عرفناك أبا رحيما شملنا بالإحسان والطيبات، وعونا منقذا في كل النوائب والملمات.
ومن ذا الذي يمكن أن يشك لحظة في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله .. إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأذقناهم من العذاب، لما غدونا أسراهم وكدنا نموت جوعا، راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بهم من خصاصة، وأسدوا إلينا ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان".
واليوم دنّس الصهانية الأقصى أرض القدس وفلسطين، وشردوا خمسة ملايين فلسطيني، وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، واقتلعوا أشجار الزيتون، وهدموا البيوت وعاثوا في القدس فسادا، ولا بد لكل مسلم أن يستشعر مسئوليته أمام الله تعالى عن رد البغاة، وطرد المعتدين، ولا سبيل لهذا إلا الجهاد المقدس لتحرير الأقصى الذي نتلو ذكره في آيات القرآن.
ونعيش هموم الشعب الذي ضحى في العام الماضي فقط بقرابة الثمانمائة شهيد والأربعين ألف جريح وهم عزل ماديا الأقوى روحيا، أمام طغمة من بني صهيون بدباباتهم ورشاشاتهم وطائراتهم وجرافاتهم لكنهم الأضعف قلبا، والأبعد عن الله تعالى وعن أي دين تلك مسئولتنا أمام رب الأرض والسماء، أمام التاريخ والأجيال، أمام الأديان والقيم الإنسانية.
والحق أن التاريخ يؤكد أنه لا يمكن أن يتم ذلك إلا على أيدي المسلمين.
الدرس الرابع: الإسراء والمعراج مثال لأحدث وأرقى صور السرعة في الاتصالات والمواصلات والفضائيات:
في عصر الجمل سفينة الصحراء كانت رحلة الإسراء والمعراج في سرعة فائقة في الزمان والمكان، حتى عاد الحبيب -صلى الله عليه وسلم- منها دون أن يبرد فراشه كما روي البخاري بسنده عن أم هانئ -رضي الله عنها-، في هذا العصر قطعت المسافة من المدينة إلى المسجد الأقصى في ثوان.
ومن الأقصى إلى السموات العلا في ثوان، وكانت العودة الحميدة، وإذاعة أنباء الرحلة في الصباح، ولم يكن أحد يصدق إلا من آمن بالمعجزة الإلهية، والوحي الرباني، لكن أراد الله تعالى في هذا الزمن البدائي أن تكون معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- أبد الدهر أسبق من كل تكنولوجيا الاتصالات والفضائيات، فسألوه عن صفات المسجد الأقصى وهم يعلمون أنه ما ذهب إليه في تاريخه قبل البعثة.
فتجلى الأقصى مكانا وشمالا وجنوبا وشرقا وغربا في شاشة لا يراها إلا النبي – صلى الله عليه وسلم -، وبهت الجميع لهذا الوصف الدقيق.
أليس هذا درسا للذين ارتموا على أرجل الرجل الأبيض الذي أنشأ الفضائيات وطور الاتصالات، نحن يا قومي أصحاب سبق، لا تبهرنا الصور والأشكال، نحن ذوو عمق في النظر إلى الجوهر، إلى الروح، إلى القيم والأخلاق، سواء كان الإنسان يركب حمارا أو جملا أو صاروخا فضائيا، سواء كان فقيرا أو غنيا، هكذا المؤمن لا يبهر إلا بالحقائق وهي وحدها في مكنون القرآن وصحيح السنن، وصريح العقول الراشدة.
الدرس الخامس: هدية الإسراء والمعراج إلى الأمة الصلاة كمنهاج حياة:
لقد دنا النبي – صلى الله عليه وسلم – من ربه واقترب، ورأى من آيات ربه الكبرى، وقد علم الله حب نبيه لأمته، فأراد ألا يحرم كل مؤمن ومؤمنة من إسراء ومعراج ففرضت الصلاة قبلتها الأولى إلى بيت المقدس حيث – صلى الله عليه وسلم – بالأنبياء والرسل أجمعين، ثم معراج الروح إلى رب الأرض والسماء، كما قال سبحانه: "واسجد و اقترب" ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقرب ما يكون العبد إلى به وهو ساجد".
وصارت الصلاة منهاج حياة تصنع المسلمين في أحسن صياغة، فيبادرون الطفل في أول لحظة من حياته بالأذان والإقامة، ريثما يميز فيعلم الصلاة، ثم يؤمر بها، ثم يكلف بأدائها عند البلوغ، وتبقى عبادة يومية خمس مرات، وعشرات المرات لمن تطوع، فهي أول ما يبدأ به يومه في صلاة الفجر المشهودة وآخر ما يختم به يومه في صلاة الوتر المحبوبة.
وبينهما صلوات بين الفرض والنافلة، فإذا حزبه أمر صلى وإذا احتار في أمر صلى صلاة الاستخارة، وإذا أذنب صلى ركعتين تغسلان ذنبه وترفعان وزره، وإذا خسفت الشمس أو كسف القمر صلى، وإذا أجدبت السماء صلى.
وإذا بشر بالخير سجد شكرا وذكراً لله تعالى، وإذا وافته المنية وقدم على ربه كان آخر عهده بالدنيا صلاة الجنازة، فهي منهج حياة من الميلاد إلى ما بعد الممات، وهي النور في القبر والحشر، وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة وأول مفاتيح الجنة بعد رحمة الله عز وجل.
هكذا كانت رحلة الإسراء والمعراج، لم تكن نزهة بل معجزة، ولم تكن خاصة بالنبي – صلى الله عليه وسلم – بل ترسم منهاج حياة لمن أراد النجاة، ووهب حياته كلها لدعوة الله .
الكاتب: أ.د. صلاح سلطان
المصدر: موقع أ.د. صلاح سلطان